بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله حق حمده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي، أبو عمرو المكِّي.
نشأ نشأةً كريمة، على الأخلاق العالية والشِّيم الرَّفيعة حتى صار مضرب مثل عند العرب في حبِّ النَّاس له وقربه منهم، كما أخرج ابن الأعرابي في «معجمه» (899)، واللَّالكائي في «أصول السُّنَّة» (2572) عن إمام التَّابعين عامر الشَّعبي قال: «كان عثمان في قريش محبَّبًا، يوصون إليه ويعظِّمونه، وإن كانت المرأة من العرب لترقِّص صبيِّها وهي تقول:
أحبُّك والرَّحمنْ ** حبَّ قريشٍ عثمانْ
ومن أجل هذا أرسله النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى مكَّة في الحديبية، قال في «سمط النُّجوم» (2/515): «وإنَّما أرسله عليه الصَّلاة والسَّلام لعزَّته فيهم، ولو كان أحدٌ أعزَّ ببطن مكَّة من عثمان لبعثه، لأنَّه كان له في قريش محبَّة وعزَّة لا توصفان حتَّى ضربوا بذلك المثل».
أسلم قديمًا، خامس خمسة أو سادس ستَّة على يد أبي بكر رضي الله عنهما، فعلا شأنه في الإسلام جدًّا لطيب معدنه، فالإسلام يزيد إلى عقل العاقل عقلًا، وإلى حلمه حلمًا، ومن كلِّ خلق كريم شيئًا، إذ «النَّاس معادن» وخيارهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام كما صحَّ بذلك الخبر عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
زوَّجه النَّبي صلى الله عليه وسلم ابنته رقيَّة فهاجر بها إلى الحبشة الهجرة الأولى فارَّين بدينهما، فهو أوَّل من هاجر بأهله من هذه الأمَّة، ثمَّ رجع إلى مكَّة، وبقي بها إلى أن هاجر الهجرة الثَّانية إلى المدينة، فكان له فيها المواقف المشهودة والمقامات العالية في نفسه وماله رضي الله عنه.
وفي بدر مرضت رقية رضي الله عنها فأمره النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقيم على تمريضها، وضرب له بسهم في الأجر والغنيمة، فهو البدريُّ الَّذي لم يشهدها، ولمَّا رجع النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم من بدر توفِّيت رقيَّة فزوَّجه النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم ابنته الأخرى أمَّ كلثوم، فهو بذلك ذو النُّورين، زوجُ بنتيْ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
بشَّره النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالجنة وهو يمشي بين النَّاس، وضمن له الجنَّة بشرائه بئر رومة، ولما جهَّز جيش العسرة قال عليه السَّلام: «ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم» [أخرجه التِّرمذي (3701) وحسَّنه هو والألباني].
وأخبر عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّ الملائكة تستحيي منه [أخرجه مسلم (2401)].
فلهذا وغيره كان المسلمون يعرفون له فضله ومكانه، ويعلمون أنَّه خيرهم بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصاحبيه أبي بكر وعمر، كما أخبر عنهم بذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقال الإمام المتفنِّن أبو محمَّد ابن قتيبة في كتاب «المعارف» (ص192): «وكانت أوَّل غزوة غزيت في خلافته «الرّيّ» وأمير الجيوش أبو موسى الأشعريّ، ثمَّ «الإسكندريَّة»، ثمَّ «سابور»، ثمَّ «إفريقيَّة»، ثمَّ «قبرس» من سواحل بحر الرُّوم، و«إصطخر الآخر»، و«فارس الأولى»، ثمَّ «جور»، و«فارس الآخرة»، ثمَّ «طبرستان»، و«دارابجرد»، و«كرمان»، و«سجستان»، ثمَّ «الأساورة» في البحر، ثمَّ حصون «قبرس»، ثمَّ «ساحل الأردن»، ثمَّ كانت «مرو» على يد عبد الله بن عامر سنة أربع وثلاثين». اهـ
فاتَّسعت دار الإسلام في خلافته اتِّساعا عظيمًا، ودخل فيهم من لم يحسُن إسلامه من الأوباش، والمندسُّين، والمنافقين.
وكان النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قد بشَّره بالجنَّة على بلوى تصيبه، وأخبر أنَّ رحى الإسلام ستدور على خمس وثلاثين أو ست وثلاثين وتكون فتنة، قال النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم مشيرًا إلى عثمان: «هذا وأصحابه يومئذ على الحق» [أخرجه أحمد (18060) وغيره وهو حسن بشواهده].
فكانت الفتنة هي خروج الخارجين من مصر والعراق ومحاصرتهم عثمان رضي الله عنه في ذي الحجَّة سنة خمس وثلاثين، ليُقتل في داره شهيدًا كما شهد له بذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا رقي أُحدًا هو أبو بكر وعمر وعثمان فاهتزَّ أُحد فقال عليه السَّلام:«اثبت أحد، فإنَّما عليك نبيٌّ وصدِّيق وشهيدان» [أخرجه البخاري (3675)].
توفِّي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاجتمع الصَّحابة في السَّقيفة فبايعوا أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فلمَّا حضرت عمر الوفاة جعل الأمر شورى في ستَّة نفر، شهد لهم عمرُ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم توفِّي وهو راضٍ عنهم، فاتَّفقت كلمتهم وكلمة من وراءهم من المسلمين على تولية عثمان إذ لم يَرَوْا فيهم من يعدله.
فخلف على أهل الإسلام خلافةَ رشد، وولايةَ عدل وفضل، وإسباغ في العطايا، ولين في المعاملة، فلمَّا أراد الله أن يُمضي ما سبق في قدره اجتمع عليه الأوباش وحثالة النَّاس ينقمون عليه أمورًا بعضها من مناقبه قلبوها مذامَّ، وبعضها فهمٌ منه في دين الله تعالى جهلوه هم، ورشدٌ غَبِي عليهم.
حاصروه في الدَّار أكثر من شهر ـ على المشهور ـ واجمعوا أمرهم على أن يخلع نفسه أو يقتلوه، فاستشار بعضَ الأكابر من أصحاب النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم في أمره، منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال له عبد الله ـ بعد كلام ـ: «لا أرى أن تخلع قميصا قمصكه الله فتكون سنَّة، كلَّما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه» [أخرجه ابن أبي شيبة (37656) وغيره بإسناد حسن كما في «فتنة مقتل عثمان» (1/148) ].
ووافق هذا ما عند عثمان رضي الله عنه فإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان قد أسرَّ إليه أن «إن أرادوك أن تخلع قميصًا قمصكه الله فلا تفعل» [أخرجه أحمد (24466) وقوَّاه الألباني].
ثمَّ إن أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ممَّن شهد يوم الدَّار قد تدرَّعوا بأسلحتهم وجاؤوا إلى الدَّار لينصروا عثمان، منهم الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزُّبير وأبو هريرة والمغيرة بن شعبة وحارثة بن النُّعمان وغيرهم، ونادى كعب بن مالك في الأنصار: «يا معشر الأنصار كونوا أنصار الله مرَّتين» فجاؤوا فوقفوا بالباب، فكان عثمان ينهاهم عن القتال، بل يعزم عليهم ويقول: «أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم» [انظر هذه الآثار وغيرها في كتاب «فتنة مقتل عثمان» (1/159- 165)]، وقد كان يقول رضي الله عنه وأرضاه كما في «المسند» (481) وغيره: «لن أكون أوَّل من خلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أمَّته بسفك الدِّماء».
فقتل رضي الله عنه شهيدًا مستمسكًا بوصيَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعهده إليه، محافظًا على دماء المسلمين حاقنًا لها، مسترخصًا نفسه في ذلك، وقد صحَّ أنَّه قُتل وهو ناشرٌ المصحفَ يقرأ فيه فوقع دمه على قول الله تعالى: «فسيكفيكهم الله وهو السَّميع العليم».
فهذا هو عثمان رضي الله عنه وهذه هي سيرته وقصَّة مقتله.
بسط ظلَّ الإسلام على أرض الله تعالى ثنتي عشرة سنة، وفتح الفتوح ومصَّر الأمصار، وتوفِّي رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنه، يحثُّ على التَّمسك بهديه والاقتداء بسنَّته، وصار قدوةً للنَّاس في الصَّبر والحلم والحرص على دماء أهل الإسلام، وقد كان معه من أنصاره ما لو أرادوا أن يمنعوه بأرديتهم لمنعوه، ولو أراد لقاتَلَهم بهم حتى يخرجهم من أقطارها كما قال سليط بن سليط.
وبتعبير عصريٍّ لا أحبُّه، ولكنِّي مضطرٌّ إليه محاكاةً للمفترين: لقد دخل عثمان التَّاريخ من أوسع أبوابه، وإنَّ له عند ربِّه الجنَّات العالية الَّتي لا يسمَع فيها لغوًا ولا تأثيما إلَّا قيلًا سلامًا سلامًا.
جاء في آخر الزَّمان أناس يجهلون تاريخ الإسلام وحقائقه، ورجالاته ومبادئهم الَّتي عاشوا عليها وماتوا من أجلها، فأخذوا فكرًا غربيًّا ملوَّثًا، وتشبَّعوا بمفاهيم ومبادئ أحسنُ أحوالها أن تكون بشريَّة قابلة للخطأ والصَّواب، وهي إلى الخطأ أقرب، من نحو تداول الحكم، وديمقراطيَّة السُّلطة وغيرها، فقال أحد هؤلاء المفترين بملئ فيه كاذبًا متجنِّيًا وهو أحمد مراني (الحزبي الحركي والوزير السابق): «دراسة معمَّقة: كلَّما تشبَّث شخص بالحكم خرج من أضيق أبواب التَّاريخ، إلَّا وكانت مأساويَّة (يعني نهايته)، بدءً من عثمان بن عفَّان المبشَّر بالجنَّة، الَّذي تستحي منه الملائكة، أين قتل؟ في بيته! من طرف ناس ثوَّار، لأنَّ عارفين بأنَّ الشَّخص هذا ما يخرجش (أي: لن يخرج) من الحكم حتَّى يموت، فإذن قتلوه، لو كانوا يعلمون بأنَّ بعد سنة، سنتين، ستكون تداول على الحكم كان ممكن يصبروا، ثمَّ عليُّ بن أبي طالب ثمَّ الأمويين..».
هذه كلمات قالها ـ بل قاءها ـ رجل من رموز الحركة الإسلاميَّة في وبلادنا، وقد سبق وأن استَوْزَر على شؤون الدِّين والأوقاف، يقول هذه الكلمات التي تضمَّنت:
1ـ أنَّ عثمان قُتل لأنَّه تشبَّث بالسُّلطة.
2ـ ومثله عليُّ بن أبي طالب.
3ـ وهكذا الأمويون.
4ـ وأنَّ الثوَّار لو علموا أنَّه سيتنحَّى بعد سنة أو سنتين لاحتمل أن يصبروا ولا يقتلوه.
أقول: وصف الإبراهيميُّ قومًا فقال: «يتكلَّمون في قضايا كبيرة بعقول صغيرة ونظرة قاصرة». فلا أرى هذا المرَّاني (بفتح الميم اسمُه، وبضمِّها نسبةً على غير قياس إلى مرارة ما صدر منه) إلَّا أنَّه تناول قضيَّة كبيرة بعقل صغير ونظرة قاصرة، إن سلم من فساد عَقْدٍ وطويَّة، ولوثةٍ رافضيَّة.
فالَّذين خرجوا على عثمان إنَّما خرجوا طلبًا للدُّنيا وطمعا في حطامها، ولذلك صحَّ أنَّه لمَّا خرج إليهم كانَّ أوَّل ما اعترضوا عليه به أنه حمى الحمى لإبل الصَّدقة، ونزعوا بقول الله تعالى في يونس:«آلله أذن لكم أم على الله تفترون» فقالوا له: «آلله أذن لك أم على الله تفتري»، فبيَّن لهم رضي الله عنه فيما نزلت، وأخبرهم بأنَّ عمر قد سبقه إلى مثله، وذكروا امورا أخرى فأجابهم هو وأجابهم رسلُه من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسكنوا ورجعوا، وفي طريقهم إلى مصر اعترضهم رجلٌ يزعم أنَّ معه كتابًا من أمير المؤمنين عثمان إلى واليه بمصر يأمره أن إذا قدموا عليه أن يقطع أيديهم وأرجلهم ويصلبهم، فرجعوا إلى عثمان فحصروه حتَّى قتلوه عليهم لعائن الله إلى يوم يبعثون.
فهل في هذا وغيره ممَّا حُكي عنهم من الاعتراض ما يدلُّ على أنَّ مرادهم التَّداول على السُّلطة كما زعم المفتري؟
وهل فيه ما يفهم منه ـ ولو من بعيد ـ أنَّهم لو علموا أنَّه سيتنحى ولو بعد سنتين فإنَّه من الممكن أن يصبروا؟
إنَّها يا مسلوب المعالي! شهادةٌ كتَبَها عليك أملاكُ الرَّحمن، وسوف تُسأل عنها حين تقف بين يديْ الدَّيَّان، كما قال بارينا سبحانه:«ستُكتب شهادتهم ويسألون».
ليتك رحمت نفسك فصُنتها عن عرض عثمان إذ قد صان الله يدك عن دمه.
اللَّهم إنَّا نبرأ إليك ممَّا يقوله الأفَّاكون ويفتريه المفترون، ونشهدك ربَّنا على حبِّ أصحاب نبيِّك الَّذين اخترتهم لصحبته ونصرة دينه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
كتبه الشيخخالد حمودة حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله حق حمده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي، أبو عمرو المكِّي.
نشأ نشأةً كريمة، على الأخلاق العالية والشِّيم الرَّفيعة حتى صار مضرب مثل عند العرب في حبِّ النَّاس له وقربه منهم، كما أخرج ابن الأعرابي في «معجمه» (899)، واللَّالكائي في «أصول السُّنَّة» (2572) عن إمام التَّابعين عامر الشَّعبي قال: «كان عثمان في قريش محبَّبًا، يوصون إليه ويعظِّمونه، وإن كانت المرأة من العرب لترقِّص صبيِّها وهي تقول:
أحبُّك والرَّحمنْ ** حبَّ قريشٍ عثمانْ
ومن أجل هذا أرسله النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى مكَّة في الحديبية، قال في «سمط النُّجوم» (2/515): «وإنَّما أرسله عليه الصَّلاة والسَّلام لعزَّته فيهم، ولو كان أحدٌ أعزَّ ببطن مكَّة من عثمان لبعثه، لأنَّه كان له في قريش محبَّة وعزَّة لا توصفان حتَّى ضربوا بذلك المثل».
أسلم قديمًا، خامس خمسة أو سادس ستَّة على يد أبي بكر رضي الله عنهما، فعلا شأنه في الإسلام جدًّا لطيب معدنه، فالإسلام يزيد إلى عقل العاقل عقلًا، وإلى حلمه حلمًا، ومن كلِّ خلق كريم شيئًا، إذ «النَّاس معادن» وخيارهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام كما صحَّ بذلك الخبر عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
زوَّجه النَّبي صلى الله عليه وسلم ابنته رقيَّة فهاجر بها إلى الحبشة الهجرة الأولى فارَّين بدينهما، فهو أوَّل من هاجر بأهله من هذه الأمَّة، ثمَّ رجع إلى مكَّة، وبقي بها إلى أن هاجر الهجرة الثَّانية إلى المدينة، فكان له فيها المواقف المشهودة والمقامات العالية في نفسه وماله رضي الله عنه.
وفي بدر مرضت رقية رضي الله عنها فأمره النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقيم على تمريضها، وضرب له بسهم في الأجر والغنيمة، فهو البدريُّ الَّذي لم يشهدها، ولمَّا رجع النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم من بدر توفِّيت رقيَّة فزوَّجه النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم ابنته الأخرى أمَّ كلثوم، فهو بذلك ذو النُّورين، زوجُ بنتيْ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
بشَّره النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالجنة وهو يمشي بين النَّاس، وضمن له الجنَّة بشرائه بئر رومة، ولما جهَّز جيش العسرة قال عليه السَّلام: «ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم» [أخرجه التِّرمذي (3701) وحسَّنه هو والألباني].
وأخبر عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّ الملائكة تستحيي منه [أخرجه مسلم (2401)].
فلهذا وغيره كان المسلمون يعرفون له فضله ومكانه، ويعلمون أنَّه خيرهم بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصاحبيه أبي بكر وعمر، كما أخبر عنهم بذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقال الإمام المتفنِّن أبو محمَّد ابن قتيبة في كتاب «المعارف» (ص192): «وكانت أوَّل غزوة غزيت في خلافته «الرّيّ» وأمير الجيوش أبو موسى الأشعريّ، ثمَّ «الإسكندريَّة»، ثمَّ «سابور»، ثمَّ «إفريقيَّة»، ثمَّ «قبرس» من سواحل بحر الرُّوم، و«إصطخر الآخر»، و«فارس الأولى»، ثمَّ «جور»، و«فارس الآخرة»، ثمَّ «طبرستان»، و«دارابجرد»، و«كرمان»، و«سجستان»، ثمَّ «الأساورة» في البحر، ثمَّ حصون «قبرس»، ثمَّ «ساحل الأردن»، ثمَّ كانت «مرو» على يد عبد الله بن عامر سنة أربع وثلاثين». اهـ
فاتَّسعت دار الإسلام في خلافته اتِّساعا عظيمًا، ودخل فيهم من لم يحسُن إسلامه من الأوباش، والمندسُّين، والمنافقين.
وكان النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قد بشَّره بالجنَّة على بلوى تصيبه، وأخبر أنَّ رحى الإسلام ستدور على خمس وثلاثين أو ست وثلاثين وتكون فتنة، قال النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم مشيرًا إلى عثمان: «هذا وأصحابه يومئذ على الحق» [أخرجه أحمد (18060) وغيره وهو حسن بشواهده].
فكانت الفتنة هي خروج الخارجين من مصر والعراق ومحاصرتهم عثمان رضي الله عنه في ذي الحجَّة سنة خمس وثلاثين، ليُقتل في داره شهيدًا كما شهد له بذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا رقي أُحدًا هو أبو بكر وعمر وعثمان فاهتزَّ أُحد فقال عليه السَّلام:«اثبت أحد، فإنَّما عليك نبيٌّ وصدِّيق وشهيدان» [أخرجه البخاري (3675)].
توفِّي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاجتمع الصَّحابة في السَّقيفة فبايعوا أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فلمَّا حضرت عمر الوفاة جعل الأمر شورى في ستَّة نفر، شهد لهم عمرُ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم توفِّي وهو راضٍ عنهم، فاتَّفقت كلمتهم وكلمة من وراءهم من المسلمين على تولية عثمان إذ لم يَرَوْا فيهم من يعدله.
فخلف على أهل الإسلام خلافةَ رشد، وولايةَ عدل وفضل، وإسباغ في العطايا، ولين في المعاملة، فلمَّا أراد الله أن يُمضي ما سبق في قدره اجتمع عليه الأوباش وحثالة النَّاس ينقمون عليه أمورًا بعضها من مناقبه قلبوها مذامَّ، وبعضها فهمٌ منه في دين الله تعالى جهلوه هم، ورشدٌ غَبِي عليهم.
حاصروه في الدَّار أكثر من شهر ـ على المشهور ـ واجمعوا أمرهم على أن يخلع نفسه أو يقتلوه، فاستشار بعضَ الأكابر من أصحاب النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم في أمره، منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال له عبد الله ـ بعد كلام ـ: «لا أرى أن تخلع قميصا قمصكه الله فتكون سنَّة، كلَّما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه» [أخرجه ابن أبي شيبة (37656) وغيره بإسناد حسن كما في «فتنة مقتل عثمان» (1/148) ].
ووافق هذا ما عند عثمان رضي الله عنه فإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان قد أسرَّ إليه أن «إن أرادوك أن تخلع قميصًا قمصكه الله فلا تفعل» [أخرجه أحمد (24466) وقوَّاه الألباني].
ثمَّ إن أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ممَّن شهد يوم الدَّار قد تدرَّعوا بأسلحتهم وجاؤوا إلى الدَّار لينصروا عثمان، منهم الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزُّبير وأبو هريرة والمغيرة بن شعبة وحارثة بن النُّعمان وغيرهم، ونادى كعب بن مالك في الأنصار: «يا معشر الأنصار كونوا أنصار الله مرَّتين» فجاؤوا فوقفوا بالباب، فكان عثمان ينهاهم عن القتال، بل يعزم عليهم ويقول: «أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم» [انظر هذه الآثار وغيرها في كتاب «فتنة مقتل عثمان» (1/159- 165)]، وقد كان يقول رضي الله عنه وأرضاه كما في «المسند» (481) وغيره: «لن أكون أوَّل من خلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أمَّته بسفك الدِّماء».
فقتل رضي الله عنه شهيدًا مستمسكًا بوصيَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعهده إليه، محافظًا على دماء المسلمين حاقنًا لها، مسترخصًا نفسه في ذلك، وقد صحَّ أنَّه قُتل وهو ناشرٌ المصحفَ يقرأ فيه فوقع دمه على قول الله تعالى: «فسيكفيكهم الله وهو السَّميع العليم».
فهذا هو عثمان رضي الله عنه وهذه هي سيرته وقصَّة مقتله.
بسط ظلَّ الإسلام على أرض الله تعالى ثنتي عشرة سنة، وفتح الفتوح ومصَّر الأمصار، وتوفِّي رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنه، يحثُّ على التَّمسك بهديه والاقتداء بسنَّته، وصار قدوةً للنَّاس في الصَّبر والحلم والحرص على دماء أهل الإسلام، وقد كان معه من أنصاره ما لو أرادوا أن يمنعوه بأرديتهم لمنعوه، ولو أراد لقاتَلَهم بهم حتى يخرجهم من أقطارها كما قال سليط بن سليط.
وبتعبير عصريٍّ لا أحبُّه، ولكنِّي مضطرٌّ إليه محاكاةً للمفترين: لقد دخل عثمان التَّاريخ من أوسع أبوابه، وإنَّ له عند ربِّه الجنَّات العالية الَّتي لا يسمَع فيها لغوًا ولا تأثيما إلَّا قيلًا سلامًا سلامًا.
جاء في آخر الزَّمان أناس يجهلون تاريخ الإسلام وحقائقه، ورجالاته ومبادئهم الَّتي عاشوا عليها وماتوا من أجلها، فأخذوا فكرًا غربيًّا ملوَّثًا، وتشبَّعوا بمفاهيم ومبادئ أحسنُ أحوالها أن تكون بشريَّة قابلة للخطأ والصَّواب، وهي إلى الخطأ أقرب، من نحو تداول الحكم، وديمقراطيَّة السُّلطة وغيرها، فقال أحد هؤلاء المفترين بملئ فيه كاذبًا متجنِّيًا وهو أحمد مراني (الحزبي الحركي والوزير السابق): «دراسة معمَّقة: كلَّما تشبَّث شخص بالحكم خرج من أضيق أبواب التَّاريخ، إلَّا وكانت مأساويَّة (يعني نهايته)، بدءً من عثمان بن عفَّان المبشَّر بالجنَّة، الَّذي تستحي منه الملائكة، أين قتل؟ في بيته! من طرف ناس ثوَّار، لأنَّ عارفين بأنَّ الشَّخص هذا ما يخرجش (أي: لن يخرج) من الحكم حتَّى يموت، فإذن قتلوه، لو كانوا يعلمون بأنَّ بعد سنة، سنتين، ستكون تداول على الحكم كان ممكن يصبروا، ثمَّ عليُّ بن أبي طالب ثمَّ الأمويين..».
هذه كلمات قالها ـ بل قاءها ـ رجل من رموز الحركة الإسلاميَّة في وبلادنا، وقد سبق وأن استَوْزَر على شؤون الدِّين والأوقاف، يقول هذه الكلمات التي تضمَّنت:
1ـ أنَّ عثمان قُتل لأنَّه تشبَّث بالسُّلطة.
2ـ ومثله عليُّ بن أبي طالب.
3ـ وهكذا الأمويون.
4ـ وأنَّ الثوَّار لو علموا أنَّه سيتنحَّى بعد سنة أو سنتين لاحتمل أن يصبروا ولا يقتلوه.
أقول: وصف الإبراهيميُّ قومًا فقال: «يتكلَّمون في قضايا كبيرة بعقول صغيرة ونظرة قاصرة». فلا أرى هذا المرَّاني (بفتح الميم اسمُه، وبضمِّها نسبةً على غير قياس إلى مرارة ما صدر منه) إلَّا أنَّه تناول قضيَّة كبيرة بعقل صغير ونظرة قاصرة، إن سلم من فساد عَقْدٍ وطويَّة، ولوثةٍ رافضيَّة.
فالَّذين خرجوا على عثمان إنَّما خرجوا طلبًا للدُّنيا وطمعا في حطامها، ولذلك صحَّ أنَّه لمَّا خرج إليهم كانَّ أوَّل ما اعترضوا عليه به أنه حمى الحمى لإبل الصَّدقة، ونزعوا بقول الله تعالى في يونس:«آلله أذن لكم أم على الله تفترون» فقالوا له: «آلله أذن لك أم على الله تفتري»، فبيَّن لهم رضي الله عنه فيما نزلت، وأخبرهم بأنَّ عمر قد سبقه إلى مثله، وذكروا امورا أخرى فأجابهم هو وأجابهم رسلُه من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسكنوا ورجعوا، وفي طريقهم إلى مصر اعترضهم رجلٌ يزعم أنَّ معه كتابًا من أمير المؤمنين عثمان إلى واليه بمصر يأمره أن إذا قدموا عليه أن يقطع أيديهم وأرجلهم ويصلبهم، فرجعوا إلى عثمان فحصروه حتَّى قتلوه عليهم لعائن الله إلى يوم يبعثون.
فهل في هذا وغيره ممَّا حُكي عنهم من الاعتراض ما يدلُّ على أنَّ مرادهم التَّداول على السُّلطة كما زعم المفتري؟
وهل فيه ما يفهم منه ـ ولو من بعيد ـ أنَّهم لو علموا أنَّه سيتنحى ولو بعد سنتين فإنَّه من الممكن أن يصبروا؟
إنَّها يا مسلوب المعالي! شهادةٌ كتَبَها عليك أملاكُ الرَّحمن، وسوف تُسأل عنها حين تقف بين يديْ الدَّيَّان، كما قال بارينا سبحانه:«ستُكتب شهادتهم ويسألون».
ليتك رحمت نفسك فصُنتها عن عرض عثمان إذ قد صان الله يدك عن دمه.
اللَّهم إنَّا نبرأ إليك ممَّا يقوله الأفَّاكون ويفتريه المفترون، ونشهدك ربَّنا على حبِّ أصحاب نبيِّك الَّذين اخترتهم لصحبته ونصرة دينه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
كتبه الشيخخالد حمودة حفظه الله
add_comment ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق